غودو مانو نازل عالشام

عبادة صباغ
٥٦٧ كلمة
٣ دقيقة قراءة
Read in English

لما الواحد ينقل من بوسطن لسان فرانسيسكو، بتصير حياته فيها رفاهية ما حدا فيو ينكرها. قبل كم يوم انقطعت الكهربا عندي شي خمس دقايق، وانقهرت أكتر من اللازم. شو صار يعني؟ ولا شي. بس هاد دلع الحياة المريحة اللي صار جزء من روتيني اليومي.

عندي تحدّياتي طبعًا. بس الجو اللي محاوط حالي فيه صار فيه الحكي عن “المخاطرة” مربوط بقصص بسيطة: واحد عم يفكّر يغيّر شغله، وتاني عم يوزن أسهم شركته الناشئة. مخاطرة ما بتخلّي رفقاتك يمسكوا موبايلاتن ويدقّولك بقلق حقيقي. لما نوصل لهالمستوى من الراحة، في قصص ومخاطر كتير ما عاد حدّا يحسبلها حساب أساسًا.

كل المسجات والحكي اللي وصلوني، واللي خلّوني اكتب هالمقال، عم يلفّوا حوالين نفس السؤال، غالبًا مغلف بقلق حقيقي: “عن جد مع كل اللي عم يصير، لسا بدك تروح عالشام؟”. أغلبها إجتني من رفقاتي الأمريكان. والرسالة المبطّنة واضحة: العاقل ما بيعملها بهالوقت.

طبيعي الواحد يهرب من الخطر. وفعلاً المنطق السائد عند الطبقة المهنية تبعنا صار يفضّل الحكي النظيف، النظري ومن بعيد، على إنو الواحد يشارك عن جد ويخاطر يا بحياته يا بشغله. بيعلمونا ننصح ونستشير ونحطّ خطط من مكان ما منتحمل فيه أي عواقب إذا الخطة فشلت. بس أنا بشوف إنو الواحد “يخاطر بجلدو” هو الدوا الحقيقي لهالقصة.

السعي اللامنتهي ورا الأمان خلّق شي أنا بسميه إنتاج المغترب لمسرحية “انتظار غودو”. إلنا أربعطعشر سنة 1 1 من بداية الثورة عام ٢٠١١ ونحنا ناطرين: ناطرين النظام يسقط، العنف يوقف، الاستثمار الأجنبي يجي، العقوبات تنرفع. ناطرين اللحظة المثالية اللي ما فيها ولا نوع خطر لنتحرّك.

حتى هلق، وإسرائيل عم تقصف قلب الشام بساحة الأمويين الأسبوع الماضي 2 2 رفقاتي وخالتي كانوا بالساحة بنفس الوقت ، والعنف مولّع بالجنوب بالسويداء، والتوتر الطائفي عم يغلي، ردة الفعل الطبيعية بتقول: “اصبر شوي ليستقر الوضع”. لك سوريا عايشة على أعصابها. ويمكن هاد وضع ما في مهرب منو أصلًا إلا بإصرارنا.

أنا عم اكتب هالحكي أولًا كنقاش بيني وبين حالي. بس كمان لناس متلي… تركتوا البلد صغار وبنيتوا حياة كاملة بمكان تاني. يمكن حتى خلقتوا برا، بس بتحسّوا بالانتماء. طوّرتوا خبراتكن وشبكاتكن المهنية وصار عندكن شي تخافوا تخسروه. وانتو كمان بتقروا أخبار سوريا مع فنجان قهوة الصبح بلندن أو برلين أو دبي، وبتحسّوا بقلبكم بهديك العقدة المعروفة: تأنيب ضمير، شوق، وخوف. منقول لحالنا: “لسّا مو وقتها”، “استقرّينا زيادة”، “منخاف من العناوين”. بس المسافة اللي حطّيناها بينّا وبين أهلنا هي بالذات اللي لازم نكسرها. مسافة وهمية.

«غودو» بهالنسخة هو سوريا الآمنة ١٠٠٪، المستقرة اقتصاديًا، والممهورة بختم أمريكا والأمم المتحدة.. ومتل مسرحية بيكيت، “غودو” ما رح يجي. انتظارنا صار غاية بحد ذاتها. حالة شلل دائم منغلط ومنسميها حكمة. نحنا اللي عايشين برا وبنرفل بحياة مريحة، ما فينا نضل ناطرين سوريا تهدى بالكامل قبل ما نقرر نكون جزء من مشروع بنائها.

إي، أنا نازل عالشام. والسبب سياسي وشخصي بنفس الوقت، بس مانو قومي 3 3 مالي خلق بحركات الوطنية الفاضية والمسرحية . رح انزل بالشيراتون ناح مبنى الأركان اللي نزلت فيه الصواريخ، ورح أعطي محاضرتي بدار الأوبرا. بدي كون موجود لكون مفيد بجهود إعادة الإعمار، وبنفس الوقت بدي أبعث رسالة للسوريين اللي تحمّلوا ١٤ سنة جحيم إنو نحنا بالمغترب ما نسيناكن. في قوّة جاذبية عم تجرّنا لحرب جديدة بالمنطقة، ولازم نتحداها بإصرار إنو فينا نكتب مستقبل مختلف سوا.

الخيار بالنهاية بين نوعين من الخطر: مخاطرة صغيرة ومفهومة إنك تكون بمكان غير مستقر، ومخاطرة أكبر وأوسخ، بتاكل الروح شوي شوي، إنك تترك جيلين كاملين من السوريين يتحوّلوا لمغتربين متفرّجين، عم يحضروا قصة وطنن من بعيد. ومين قال إنو سوريا ممكن تلاقي استقرارها إذا ما كان في ناس عندها أمل وتفاؤل مستمر وما بيوقف؟

المستقبل بدو وجودنا. وأنا بفضّل خاطر وكون موجود بهالبداية الفوضوية المجهولة على إني ضل ناطر للأبد بكواليس الأمان.